أُلقيت يوم الجمعة، الخامس من شهر ذي الحِجة، سنة أربع وأربعين وأربع مئة وألف من الهجرة، في المسجد النَّبوي.
تحميل word تحميل PDF | البنغالية – বাংলা الألمانية – Deutsch الإنجليزية – English الأسبانية – Español الفارسية – فارسى الفرنسية – Français هوسا – Hausa الهندية – हिन्दी الإندونيسية – Bahasa Indonesia الإيطالية – Italiano الجورجية – ქართული المليبارية – മലയാളം الماليزية – Bahasa Melayu البرتغالية – Português الروسية – русский الألبانية – Shqip السواحلية – Kiswahili التاميلية – தமிழ் الطاجيكية – тоҷикӣ التركية – Türkçe الأوردية – اردو الصينية – 中文
إنَّ الحمدَ للَّهِ، نَحمدُه ونَستعينُه ونَستغفرُه، ونَعوذُ باللَّهِ مِن شُرورِ أنفسِنا ومِن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللَّهُ فلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضلِلْ فَلا هادِيَ لهُ، وأَشهدُ أن لَا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شَريكَ لهُ، وأَشهدُ أنَّ نبيَّنا مُحمَّداً عبدُه ورسولُه، صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وسلَّمَ تَسلِيماً كثيراً.
أمَّا بعدُ:
فاتَّقوا اللَّهَ – عِبادَ اللَّهِ – حقَّ التَّقوى، وراقِبُوهُ في السِّرِّ والنَّجوى.
أيُّها المسلمون:
تتجدَّدُ مواسمُ الخيراتِ على العباد فَضْلاً مِن اللَّه وكرماً؛ فمَا إنْ تنقَضِي شعيرةٌ إلَّا وتَلِيها عبادةٌ أُخرى؛ لِيَغسلوا فيها درَنَهم، وتَعلُوَ بها درجاتُهم.
وقد أظلَّتْنا أيَّامُ عشرٍ مبارَكةٍ، هي خيرُ الأيامِ وأفضلُها، وأجلُّها وأعظمُها، أقسمَ اللَّهُ بها، فقال: ﴿وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾، قال مسروقٌ رحمه الله: «هِيَ عَشْرُ الأَضْحَى، أَفْضَلُ أَيَّامِ السَّنَةِ»، وهي من أيَّامِ اللَّهِ الحُرُم، وخاتمةُ الأشهرِ المعلوماتِ التي قال اللَّه فيها: ﴿الحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾، قال كعبٌ رحمه الله: «أَحَبُّ الأَشْهُرِ الحُرُمِ إِلَى اللَّهِ ذُو الحِجَّةِ، وَأَحَبُّ ذِي الحِجَّةِ إِلَى اللَّهِ العَشْرُ الأُوَلِ»، نهارُها أفضلُ من نهارِ العشرِ الأواخرِ من رمضان؛ قال صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا: أَيَّامُ العَشْرِ» (رواه ابن حبَّان)، قال شيخُ الإسلام رحمه الله: «أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ العَشْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَاللَّيَالِي العَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ لَيَالِي عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ».
وفضيلةُ عشرِ ذي الحِجَّة؛ لمكان اجتماعِ أُمَّهاتِ العبادةِ فيها – من الصَّلاة، والصِّيام، والصَّدقة، والحجِّ -، ولا يَتَأَتَّى ذلك في غيرِها.
والتَّفاضلُ بين اللَّيالي والأيَّامِ داعٍ لاغتنام الخيرِ فيها، ومن اغتنامِ العشر: الإكثارُ من الأعمالِ الصالحة فيها؛ فالعملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى اللَّه من نَفْسِ العملِ إذا وقع في غيرِها؛ قال صلى الله عليه وسلم: «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنَ العَمَلِ فِي هَذِهِ، قَالُوا: وَلَا الجِهَادُ؟ قَالَ: وَلَا الجِهَادُ؛ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ» (رواه البخاري)، قال ابنُ رجبٍ رحمه الله: «وَقَدْ دَلَّ هَذَا الحَدِيثُ عَلَى أَنَّ العَمَلَ فِي أَيَّامِ العَشْرِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ العَمَلِ فِي أَيَّامِ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ شَيْءٍ مِنْهَا»، وقد كان السَّلفُ رحمهم الله يجتهدون في الأعمالِ الصَّالحة فيها، «كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رحمه الله إِذَا دَخَلَتْ عَشْرُ ذِي الحِجَّةِ اجْتَهَدَ اجْتِهَاداً حَتَّى مَا يَكَادُ يُقْدَرُ عَلَيْهِ».
ومن فضلِ اللَّه وكرمِه: أنَّ الطَّاعاتِ في هذه العشر متنوِّعةٌ، وممَّا يُشرَعُ فيها: الإكثارُ من ذِكر اللَّه؛ قال جلَّ شأنه: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾، قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «هِيَ أيَّامُ العَشْرِ»، وذِكْرُهُ سبحانه فيها من أفضلِ القربات؛ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ العَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ العَشْرِ؛ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ» (رواه أحمد)، قال النَّوَوِيُّ رحمه الله: «يُسْتَحَبُّ الإِكْثَارُ مِنَ الأَذْكَارِ فِي هَذِهِ العَشْرِ زِيَادَةً عَلَى غَيْرِهَا، وَيُسْتَحَبُّ مِنْ ذَلِكَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ أَكْثَرَ مِنْ بَاقِي العَشْرِ»، وأفضلُ الذِّكرِ: تلاوةُ كتابِ اللَّه؛ فهو الهُدى والنُّورُ المبين.
والتَّكبيرُ المُطْلَقُ في كلِّ وقتٍ من الشَّعائر في عشر ذي الحِجَّة، و«كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا» (رواه البخاري معلَّقاً).
ويُشرعُ التَّكبيرُ المقيَّدُ عَقِبَ الصَّلواتِ المفروضة، من فجرِ عرَفَةَ – للحُجَّاجِ وغيرِهم – إِلَى عصرِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
والصَّدقةُ عملٌ صالحٌ، بها تُفرَّجُ كروبٌ وتزولُ أحزان، وخيرُ ما تكون في وقتِ الحاجة وشريفِ الزَّمان، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ؛ كَالمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، – وَأَحْسَبُهُ قَالَ: – وَكَالقَائِمِ لَا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ» (متفق عليه).
وممَّا يُستحبُّ في العشر: صيامُ التِّسعةِ الأُولى منها، قال النَّوَوِيُّ رحمه الله: «مُسْتَحَبٌّ اسْتِحْبَاباً شَدِيداً»، وصيامُ يومِ عرفةَ «يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالبَاقِيَةَ» (رواه مسلم)، والأفضلُ للحاجِّ أن لا يصومَه؛ تأسيّاً بفعلِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإبقاءً لِقُوَّته ليستكثرَ من التَّضرُّع والدُّعاء.
ويومُ عرفةَ ملتقى المسلمين المشهودُ، يومُ رجاءٍ وخشوعٍ، وذُلٍّ وخضوعٍ، يومٌ كريمٌ على المسلمين، فـ«مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْداً مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ» (رواه مسلم)، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «الحَجِيجُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَنْزِلُ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنَ الإِيمَانِ وَالرَّحْمَةِ وَالنُّورِ وَالبَرَكَةِ مَا لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ بِهِ».
والدُّعاءُ عظيمُ المكانةِ رفيعُ الشَّأن؛ يرفعُ العبدُ إلى مولاه حوائجَه ويَسألُه من كرمِه المتوالي، ويتوجَّه إلى اللَّه بقلبِه امتثالاً لأمْرِه: ﴿فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، فارفَعْ له سُؤْلَك، وناجِه بكروبِك – في يومِ عرفةَ وغيرِه -، وأَيقِنْ بتحقيقِ الإجابةِ، وأَلِحَّ على الكريمِ في الطَّلَب، فهو الخلَّاقُ العليم، ﴿إِنَّمَا أَمرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾، قال ابنُ عبدِ البرِّ رحمه الله: «دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ مُجَابٌ كُلُّهُ فِي الأَغْلَبِ».
وفي عشرِ ذي الحجَّة يومُ النَّحْر؛ أعظمُ الأيَّامِ عند اللَّه، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ: يَوْمُ النَّحْرِ» (رواه أبو داود)، وهو أشدُّ الأيام عند الله حرمة، قال النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع في خطبته يوم النَّحر: «أَلَا إِنَّ أَحْرَمَ الأَيَّامِ يَوْمُكُمْ هَذَا، وَإِنَّ أَحْرَمَ الشُّهُورِ شَهْرُكُمْ هَذَا» (رواه أحمد)، وهو أحدُ عِيدَيِ المسلمين، يومُ فرحٍ وسرورٍ بأداء ركنٍ من أركان الإسلام.
وهو أفضلُ أيَّامِ المَنَاسِك وأظهرُها وأكثرُها جمعاً، وهو يومُ الحجِّ الأكبر الذي قال اللَّه: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ﴾.
وفي يوم النَّحر أخبر اللَّهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنَّه أَكْمَل لهم الدِّين، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمَّه اللَّه فلا يَنقصه أبداً، ورضيه فلا يَسخطه أبداً، فقال سبحانه: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾، قال ابن كثير رحمه الله: «هَذِهِ أَكْبَرُ نِعَمِ اللَّهِ عز وجل عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ؛ حَيْثُ أَكْمَلَ تَعَالَى لَهُمْ دِينَهُمْ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى دِينٍ غَيْرِهِ، وَلَا إِلَى نَبِيٍّ غَيْرِ نَبِيِّهِمْ».
وكلُّ نبيٍّ يسألُه اللَّهُ يومَ القيامة عن تبليغِه الرِّسالةَ لأمَّتِه، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي» (رواه مسلم)، وفي يومِ النَّحر سأل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الصحابةَ فقال: «هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ» (متفق عليه).
وفي ذلك اليومِ العظيم وصَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّتَه أن تُبَلِّغَ الدِّينَ للنَّاسِ، فقال: «فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ؛ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» (متفق عليه)، قال المُظْهِريُّ رحمه الله: «وَهَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى تَعْلِيمِ النَّاسِ أَحَادِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرَهُ مِنَ العُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا التَّعْلِيمُ والتَّعَلُّمُ لَانْقَطَعَ العِلْمُ بَيْنَ النَّاسِ».
ومع سرورِ النَّاسِ بالعيد قد يَغْفُلُ بعضُهم عن ذِكر اللَّه، قال سبحانه: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما: «الأَيَّامُ المَعْدُودَاتِ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ النَّحْرِ»، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ: أَيَّامُ أَكْلٍ، وَشُرْبٍ، وَذِكْرٍ لِلَّهِ» (رواه مسلم)، قال ابنُ حَجَرٍ رحمه الله: «وَقَدْ ثَبَتَتِ الفَضِيلَةُ لِأَيَّامِ العَشْرِ، فَتَثْبُتُ بِذَلِكَ الفَضِيلَةُ لِأَيَّامِ التَّشْرِيقِ».
وفي أيَّام النَّحرِ والتَّشريقِ عِبادةٌ مالِيَّةٌ بدنيَّةٌ هي من أحبِّ الأعمال إلى اللَّه، قَرَنَهَا اللَّهُ بالصَّلاة فقال سبحانه: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾، وقد حثَّ اللَّهُ على الإخلاصِ في النَّحر، وأن يكون القصدُ وجهَ اللَّهِ وحده، لا فخرَ ولا رياءَ ولا سُمعةَ ولا مجرَّدَ عادة، فقال سبحانه: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم﴾، و«ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ» (متفق عليه)، والأَمْلَحُ: الأَسْوَدُ الَّذِي يَعْلُو شَعَرَهُ بَيَاضٌ، وَالأَقْرَنُ: ذُو القُرُونِ.
وأفضل الأضاحي: أغلاها ثمناً وأنفسُها عند أهلِها، ولا يَتذمَّرُ من غلاء ثمنها؛ فثوابُها عند اللَّه عظيم، وتُجزئ شاةٌ واحدةٌ عن الرَّجُل وعن أهل بيتِه، ولا بأس أن يَقْتَرِضَ الرَّجُل ليُضحِّيَ، فطِيبوا بها نَفْساً، وكُلُوا، وأَطْعِموا، وتصدَّقوا، وتَحَرَّوْا بصدقاتكم فقراءكم، وبهداياكم منها أرحامكم وجيرانكم.
ومَنْ أراد أن يُضَحِّيَ حَرُمَ عليهِ في العَشْرِ أن يأخذَ مِن شعرِه أو أظفارِه شيئاً، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ، فَإِذَا أَهَلَّ هِلَالُ ذِي الحِجَّةِ، فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعَرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئاً حَتَّى يُضَحِّيَ» (رواه مسلم).
وخطرُ المعاصي يَعْظُم بارتكابها في مواسم الرَّحمةِ والخيرات؛ قال سبحانه: ﴿إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾، قال قتادة رحمه الله: «الظُّلْمُ فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئةً وَوِزْراً مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيماً، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُعَظِّمُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ».
وبعدُ، أيُّها المسلمون:
فالسَّعيدُ مَن اغتنم مواسمَ الشُّهورِ والأيَّامِ والسَّاعات، وتقرَّبَ إلى مَوْلَاهُ بما فيها من وظائف الطَّاعات.
أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم
﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا باللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾.
بارك اللَّهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم …
الحمدُ للَّهِ على إحسانِه، والشُّكرُ لهُ على توفيقِه وامتِنانِه، وأَشهدُ أن لَا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ لهُ تعظِيماً لشَأنِه، وأَشهدُ أنَّ نبيَّنا مُحمَّداً عبدُهُ ورسولُه، صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وسلَّمَ تسلِيماً مزيداً.
أيُّها المسلمون:
التَّوبةُ منزلتُها في الدِّين عاليةٌ؛ فهي سببُ الفلاحِ والسَّعادة، أوجبَها اللَّهُ على جميع العباد من جميع الذُّنوب، فقال لمَن ادَّعى له صاحبةً وولداً: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ﴾، وقال للمؤمنين: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يسألُ اللَّه في اليوم مئة مرَّةٍ أَنْ يتوبَ عليه، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى اللَّهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ فِي اليَوْمِ إِلَيْهِ مِئَةَ مَرَّةٍ – أَيْ: أَقُولُ: رَبِّ تُبْ عَلَيَّ -» (متفق عليه)، ونحنُ إلى التَّوبةِ أحوجُ، وخيرُ أيَّامِ العبدِ يومُ توبتِهِ، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالكٍ رضي الله عنه: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» (متفق عليه)، وما أجملَ التَّائبَ يتوبُ في أحبِّ الأيامِ إلى اللَّه! ومَنْ صَدَق في توبته؛ عَلَا في الدَّرجات، وبدَّلَ اللَّه سيِّئاتِهِ حسنات.
ثمَّ اعلموا أنَّ اللَّهَ أمركم بالصَّلاة والسَّلام على نبيِّه…