انتظر قليلا 0%

خطبة الجمعة | مواقف يوم القيامة وأهواله | ٢٦ رجب ١٤٤٤



مواقف يوم القيامة وأهواله

أُلقيت يوم الجمعة، السادس والعشرين من شهر رجب، سنة أربع وأربعين وأربع مئة وألف من الهجرة، في المسجد النَّبوي.

تحميل word   تحميل PDF   |   البنغالية – বাংলা   الألمانية – Deutsch   الإنجليزية – English   الأسبانية – Español   الفارسية – فارسى   الفرنسية – Français   هوسا – Hausa   الهندية – हिन्दी   الإندونيسية – Bahasa Indonesia   الإيطالية – Italiano   المليبارية – മലയാളം   الماليزية – Bahasa Melayu   البرتغالية – Português   الروسية – русский   الألبانية – Shqip   السواحلية – Kiswahili   التاميلية – தமிழ்   الطاجيكية – тоҷикӣ   التركية – Türkçe   اردو – الأوردية   中文 – الصينية


إنَّ الحمدَ للَّهِ، نَحمدُه ونَستعينُه ونَستغفرُه، ونَعوذُ باللَّهِ مِن شُرورِ أنفسِنا ومِن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللَّهُ فلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضلِلْ فَلا هادِيَ لهُ، وأَشهدُ أن لَا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شَريكَ لهُ، وأَشهدُ أنَّ نبيَّنا مُحمَّداً عبدُه ورسولُه، صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وسلَّمَ تَسلِيماً كثيراً.

أمَّا بعدُ:

فاتَّقوا اللَّهَ – عِبادَ اللَّهِ – حقَّ التَّقوى، وراقِبُوهُ في السِّرِّ والنَّجوى.

أيُّها المُسلِمونَ:

بنى اللَّهُ دينَ الإسلامِ على أُسسٍ، لا يصحُّ إسلامُ عبدٍ إلَّا بالإيمانِ بها، ومن تلك الأركانِ: اليَقِينُ باليومِ الآخِرِ.

وقد قرَّرَ اللَّهُ في كتابِه براهينَ توجِبُ اليقينَ به، ومِن ذلك قُدْرَتُه سبحانه على الخَلْقِ الأَوَّلِ مِن العدَمِ، وإحياؤهُ الموتى في الدُّنيا، وقدرتُه على خَلْقِ الحيوانِ وإخراجِ النَّباتِ بالماءِ.

والأنبياءُ عليهم السلام متَّفقون على ذِكْرهِ لِأُممِهِم، وكانَ مِن هَدْي النَّبيِّ ﷺ أن يَتخوَّلَ أصحابَه بذِكرِ المَعادِ وتفاصيلِه في خُطَبِه حتَّى كأنَّهم يرونَ ذلك اليومَ رَأْيَ العينِ، قال ابن القيِّم رحمه الله: «وَكَانَ مَدَارُ خُطَبِهِ ﷺ عَلَى حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِآلَائِهِ وَأَوْصَافِ كَمَالِهِ وَمَحَامِدِهِ، وَتَعْلِيمِ قَوَاعِدِ الإِسْلَامِ، وَذِكْرِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالمَعَادِ، وَالأَمْرِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَتَبْيِينِ مَوَارِدِ غَضَبِهِ وَمَوَاقِعِ رِضَاهُ».

وحق على اللَّه أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلَّا وضعه، والكونُ خلقه اللَّه في أَحسنِ صورةٍ وهيَّأه للخَلْقِ ليَعبُدوه في الدُّنيا، ولا تَقومُ السَّاعةُ حتَّى يُدمِّرَ اللَّهُ مَعالِمَ هذا الكونِ، ويُغيِّرَ نِظامَه؛ فالشَّمسُ تُكوَّرُ ويَذهبُ ضَوْؤُها، ويُخسَفُ القمرُ ويَتلاشى بَهَاؤُه، والكواكبُ يَنْفَرِطُ عِقْدُها وتَنْتَثِرُ، والنُّجومُ تَنْكَدِرُ ويَذهبُ نورُها، والبحارُ تُفجَّرُ ويُسَجَّرُ مَاؤُها، والجبالُ تُنسفُ، والأرضُ تُدَكُّ وتُزَلْزَلُ فلا عِوَجَ ولا ارتفاعَ، ويَقبضُها ربُّ العالمينَ بيدِه إظهاراً لِقَهْرِه وعَظَمَتِه، والسَّماءُ تَنشقُّ ويَتغيَّرُ لَوْنُها، ويَطويها الربُّ بيمينِه؛ قال عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

وقد سمَّى اللَّهُ تعالى يومَ القيامةِ بأسماءٍ عديدةٍ؛ ليَعتبِرَ النَّاسُ بذِكرِه ويَتفكروا في أَمْرِه، ومن أسمائِه: يومُ الدِّينِ، والفصلِ، والحسابِ، والحَسْرةِ، ويومُ الجَمعِ، والبعثِ.

وإذا أَذِنَ اللَّهُ بقيامِ الساعةِ أمَرَ إسرافيلَ فنَفَخَ  في الصُّورِ، فتَطِيرُ أرواحُ العِبادِ فتُعادُ في أجسادِها؛ قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ}، فتَنبُتُ أجسادُ الخلائقِ بعد بِلَاها كما يَنْبُت الزَّرعُ، قال ﷺ: «يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ البَقْلُ – أَيِ: الحَبُّ إِذَا زُرِعَ –، لَيْسَ مِنَ الإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا يَبْلَى، إِلَّا عَظْماً وَاحِداً وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ – وَهُوَ عَظْمُ أَسْفَلِ الظَّهْرِ –، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَوْمَ القِيَامَةِ» (متفق عليه).

 فيُعيدُ اللَّهُ أجسادَ العبادِ وأشعارَهم وأَبشارَهم كما كانت في الدُّنيا؛ قال جلَّ شأنه: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}، ويقومُ النَّاسُ من قبورِهم فَزِعينَ، وأوَّلُ مَن يُبعَث من قبرِه نبيُّنا ﷺ، قال ﷺ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ القَبْرُ» (رواه مسلم)، والنَّاسُ يومئذٍ حُفاةٌ عُراةٌ، «وَأَوَّلُ الخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ القِيَامَةِ: إِبْرَاهِيمُ عليه السلام» (متفق عليه).

ويُحشرُ الخَلْقُ كلُّهم – الجنُّ والإنسُ والبهائمُ – على أرضٍ ليست على الصِّفةِ المألوفةِ المعروفةِ، قال جلَّ شأنه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}، وإِنَّما يُحشَرونَ علَى «أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ – أَيْ: بَيَاضُهَا يَمِيْلُ إِلَى الحُمْرَةِ –، لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ»، ويَمُدُّها ربُّها مَدَّ الأَديمِ – وهو الجِلدُ -.

ومَن خُتِمَ له في الدُّنيا بعملِ خيرٍ أو شرٍّ يُبعثُ عليه يومَ القيامةِ، قال النَّبيُّ ﷺ: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» (رواه مسلم)، فمن النَّاسِ مَن يُحشَرُ على صُورةِ عملِه الذي كان عليه في الدُّنيا ممَّن عُجِّلتْ له عقوبتُه أو ثوابُه، وأصنافٌ من المؤمنين يُظِلُّهم اللَّهُ في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه، وأهلُ الكفرِ في ذلَّةٍ وهوانٍ وفزعٍ وخوفٍ، قال تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}.

يومُ الحَشر: يومٌ تَشخصُ فيه أبصارُ الخلائقِ، وتَبلغُ القلوبُ الحناجرَ، {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ}، وتَدنو منهم الشَّمسُ حتَّى يُؤْذِيَهم حَرُّها، ويَعْرَقون على قدْرِ أعمالِهم فيَزدادُ كَرْبُهم، قال عليه الصلاة والسلام: «يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعاً، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ» (متفق عليه)، و«يَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الغَمِّ وَالكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُونَ» (متفق عليه).

فإذا طالَ بالخلائقِ الوقوفُ، ولم يَحتمِلوا طولَ القيامِ، طلبوا مَن يَشفعُ لهم عند ربِّهم ليأتيَ إليهم لفصلِ القضاءِ بينهم وتخليصهم من ذلك الكرب، قال عليه الصلاة والسلام: «فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلَا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟» (متفق عليه)، فيأتون إلى آدمَ فيطلبون منه الشَّفاعةَ عند ربِّه فيَعتذرُ ويقول: «إِنَّ رَبِّي غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ»، ثمَّ يأتون إلى نوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى؛ فكلُّهم يَعتذرُ ويقولُ مِثْلَ ما قالَ آدمُ عليه السلام، ثمَّ يأتون إلى نبيِّنا محمدٍ ﷺ، فيقولُ: «أَنَا لَهَا»، قال عليه الصلاة والسلام: «فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ العَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِداً لِرَبِّي، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئاً لَمْ يَفْتَحْهُ لِأَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي! أُمَّتِي!» (متفق عليه).

ثمَّ يأتي ربُّ العالمين في جلالِه وعظمتِه فيبدأُ الفصلَ بين عبادِه، فيُعْرَضُ عليه الخلقُ كلُّهم في صفٍّ واحدٍ، قال تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً}، يُكلِّمُهم ربُّهم، ويبيِّنُ لهم أعمالَهم وما جنَتْ أيدِيهِم، ويُقرِّرُهم بما اقْتَرَفُوه، ويُؤتَى بالرُّسلِ شهداءَ على أُمَمِهم، ويقومُ الأشهادُ من الملائكةِ، وتَشهدُ الأرضُ بما عُمِلَ عليها، وتَنطقُ الأعضاءُ والجوارحُ بما كَسَبَتْ.

 وتُنشَرُ الصُّحفُ والدَّواوينُ التي كانت بأيدي الملائكةِ الكاتبينَ – الذين يَكْتُبون على العِبَاد أَقْوَالَهم وأَفْعَالَهم -، فيَظهرُ يومئذٍ ما كان خافياً، قال سبحانه: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}، وما عمِله العبدُ ونَسيه فإنَّ اللَّهَ لا ينساه، بل كان يحصيه عليه، ويُظهِره له فلا يُنكِرُ العبدُ منه شيئاً؛ {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.

 واللَّهُ سبحانه أسرعُ الحاسبينَ، يُحاسبُ الخَلقَ كلَّهم في وقتٍ واحدٍ بمشيئته وقدرتِه، وأوَّلُ ما يُسألُ عنه العبدُ في الحسابِ: توحيدُ اللَّهِ واتِّباعُ رُسلِه، ثمَّ الصَّلاةُ؛ فإن صلَحت صلَحَ سائرُ عملِه، وإن فَسَدت فقدْ خابَ وخسِر.

ولا تزولُ قدما عبدٍ عن ذلك الموقفِ حتَّى يُسأَلَ عن أربعٍ: «عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ؟» (رواه الترمذي)، وما من نعمةٍ إلَّا وللَّهِ على العبدِ فيها حقٌّ سيَسألُه عنها، {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.

والنَّاسُ في الحسابِ، إمَّا سعيدٌ يأخذُ كتابَه بيمينِه، ويُحاسبُه ربُّه حساباً سهلاً هَيِّناً، فيَرجعُ إلى أهلِه وأصحابِه في الموقفِ فرحاً سعيداً، قال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً}، وإمَّا شقيٌّ يُؤتى كتابَه بشِمالِه أو من وراءِ ظهرِه، فيَفْزعُ ويقولُ: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ}، ويُحاسبُه ربُّه حساباً عسيراً، يُحصي عليه مثاقيلَ الذَّرِّ من عمَلِه، ويُؤاخِذُه بكلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، قال جلَّ شأنه: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً}.

ويَظهرُ للخلقِ في ذلك المَقامِ العظيمِ: عدلُ اللَّهِ وعلمُه المحيطُ، ويَشهدُ المؤمنون رحمتَه الواسعةَ وفضلَه وكَرَمَه وبِرَّه، فيعامِلُ المحسنَ منهم بإحسانِه، ويَمنُّ على التَّائبين بغُفرانِه، قال ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ؛ وَأَمَّا الكَافِرُ وَالمُنَافِقُونَ، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}» (متفق عليه).

وتُنصَبُ الموازينُ لِتُوزَنَ فيها أعمالُ الخلقِ، وتَقومَ الحجَّةُ عليهم، ويَظهَرَ عدْلُ اللَّهِ فيهم، قال جلَّ شأنه: {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين}.

فمَن ثَقُلَتْ موازينُه فقد أفلحَ ونَجَا، ومَن خفَّت موازينُه فقد هَلَكَ، والخلقُ متفاوِتون في الوزنِ بحسبِ أعمالِهم وصلاحِ قلوبِهم، قال النبيُّ ﷺ: «إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القِيَامَةِ، لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ» (متفق عليه).

ومِن عدلِه سبحانه في الآخرةِ يَقتَصُّ للخلقِ بعضِهم من بعض، فمَن اعتدى على غيرِه أُقيدَ له منه في عرصاتِ القيامةِ، قال عليه الصلاة والسلام: «لَتُؤَدَّنَّ الحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ القَرْنَاءِ» (رواه مسلم)، والخاسرُ مَن أُخِذَت حسناتُه لغيرِه أحوجَ ما يكون هو إليها، قال ﷺ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَحَدٍ – مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ – فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» (رواه البخاري).

وفي عرصاتِ القيامةِ حوضٌ كبيرٌ واسعٌ أكرمَ اللَّهُ به نبيَّنا ﷺ، يَصُبُّ فيه مِيزابانِ من الجنَّةِ مِن نهرِ الكوثرِ، طوله شهرٌ وعرضُه شهرٌ، ماؤه أشدُّ بياضاً من اللَّبنِ، وأحلى من العسلِ، وريحُه أطيبُ من المِسْكِ، وفيه من الأَبَاريقِ كَعَدَدِ نجومِ السَّماءِ، مَن شَربَ منه لم يظمأْ بعده أبداً، ويُمنع عن الحوضِ أقوامٌ أَحدثوا في دِين اللَّهِ ما لم يَأْذَنْ به.

وإذا فرغَ ربُّ العالمين من القضاءِ بين العِبادِ، يَنصرفون من الموقفِ إمَّا إلى الجنَّةِ أو النَّارِ، ويُعطَى المؤمنون أنوارَهم بين أيديهِم وبأيمانِهم بحسبِ إيمانِهم، ويُضربُ الصِّراطُ على مَتْنِ جهنَّمَ، وهو دَحْضٌ مَزِلَّةٌ – أي: لا تَثبتُ عليه الأقدامُ -، يمرُّ النَّاسُ عليه بحسبِ أعمالِهم؛ فيمرُّ المؤمنون عليه كطرْفِ العينِ، وكالبرقِ، وكالرِّيحِ المُرسلةِ، وكالطَّيرِ، وكأجاويدِ الخيلِ، وعليه خَطاطيفُ وكَلاليبُ عظيمةٌ تَخْطَفُ النَّاسَ، فناجٍ مُسَلَّمٌ، ومخدوشٌ، ومدفوعٌ في نارِ جهنَّمَ، ونبيُّنا ﷺ على الصِّراطِ يَقول: «رَبِّ، سَلِّمْ! سَلِّمْ!».

وإذا عَبَرَ المؤمنون الصِّراطَ نجوا من النَّارِ، لكن يُحبَسونَ على قَنطرةٍ بين الجنَّةِ والنَّارِ، فيُقتصُّ لبعضِهم من بعضٍ مَظالِمُ كانت بينهم في الدُّنيا، حتَّى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِنَ لهم في دخولِ الجنَّةِ، لكن لا يدخلونها حتى يأتِيَ نبيُّنا ﷺ فتُفتَحُ له الجنَّةُ، وهو أوَّلُ مَن يَدخلُها، ثمَّ تَدخلُها أُمَّتُه، ثمَّ سائرُ الأممِ، قال عليه الصلاة والسلام: «آتِي بَابَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ، لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ» (رواه مسلم).

وبعدُ، أيُّها المسلمون:

فالسَّاعةُ آتيةٌ لا ريبَ فيها، ويومُ القيامةِ يومٌ عسيرٌ ثقيلٌ طويلٌ، كَرْبٌ يَليهِ كَرْبٌ، تشيبُ مِن هَوْلِه رؤوسُ الوِلدانِ، وقد أمَرَ اللَّهُ نبِيَّنا ﷺ أنْ يُنذرَ أُمَّتَه ذلك اليومَ في أكثرَ من مَوضعٍ، فقال له: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُون}، وقال له: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}، والعاقلُ مَن أَعدَّ العُدَّةَ لذلك اليوم، واستعدَّ لشدائدِه وأهوالِه، وأنابَ إلى اللَّهِ وتابَ.

أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون}.

بارك اللَّهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم …


الخطبة الثَّانية

الحمدُ للَّهِ على إحسانِه، والشُّكرُ لهُ على توفيقِه وامتِنانِه، وأَشهدُ أن لَا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ لهُ تعظِيماً لشَأنِه، وأَشهدُ أنَّ نبيَّنا مُحمَّداً عبدُهُ ورسولُه، صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وسلَّمَ تسلِيماً كثيراً.

أيُّها المسلمون:

العِلمُ باليومِ الآخِرِ واجبٌ على كلِّ مُسلمٍ، ومَن زادَ عِلمُه بذلك زادَ إيمانُه، والخلقُ بحاجةٍ إلى تَذكُّرِه في كلِّ حين والمبادَرةِ إلى العملِ بما يقتضيه، وعلى العبدِ أن يعلمَ من ذلك ما يصحُّ به اعتقادُه ويعينُه على لزومِ السَّدادِ في قولِه وفِعْلِه، والموفَّقُ مَن وفَّقه اللَّهُ، والمخذولُ مَن وَكَله اللَّهُ إلى نَفْسِه.

ثمَّ اعلموا أنَّ اللَّهَ أمركم بالصَّلاة والسَّلام على نبيِّه …