أُلقيت يوم الجمعة، السادس من شهر جمادى الآخرة، سنة أربع وأربعين وأربع مئة وألف من الهجرة، في المسجد النَّبوي.
تحميل word تحميل PDF | বাংলা Deutsch English Español فارسى Français Hausa हिन्दी Bahasa Indonesia Italiano Bahasa Melayu Português русский Shqip Kiswahili தமிழ் тоҷикӣ Türkçe اردو 中文
إنَّ الحمدَ للَّهِ، نَحمدُه ونَستعينُه ونَستغفرُه، ونَعوذُ باللَّهِ مِن شُرورِ أنفسِنا ومِن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللَّهُ فلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضلِلْ فَلا هادِيَ لهُ، وأَشهدُ أن لَا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شَريكَ لهُ، وأَشهدُ أنَّ نبيَّنا مُحمَّداً عبدُه ورسولُه، صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وسلَّمَ تَسلِيماً كثيراً.
أمَّا بعدُ:
فاتَّقوا اللَّهَ – عِبادَ اللَّهِ – حقَّ التَّقوى، وراقِبُوهُ في السِّرِّ والنَّجوى.
أيُّها المُسلِمونَ:
أرسلَ اللَّهُ رسولَه مُحمَّداً ﷺ بالهُدَى ودينِ الحقِّ، على حينِ فترةٍ من الرُّسلِ وَدُروسٍ من الكُتُب وتحريفٍ لِلكَلِم وتبديلٍ للشَّرائع؛ فأشرقتْ برسالتِه الأرضُ بعد ظُلُماتِها، وتألَّفتْ بها القلوبُ بعد شَتاتِها، وجَعَلَ الهُدَى والفلاح في اتِّباعِه، والضَّلالَ والشَّقاءَ في معصيتِه.
أرسله ربُّه بأكملِ رسالاتِه، وأفضلِ كُتُبِه، وخاتمةِ شرائعِه؛ حُجَّةً على الخَلق، وقَطْعاً للعذر.
جاء من عند ربِّه بنورِ الوَحْيِ الذي يُجَلِّي كلَّ ظلام، وبه حياةُ الأرواح، قال تعالى: {أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا}.
وتفاصيل الهدايةِ إلى الحقِّ والخيرِ لا تُعرَف إلَّا مِنَ الوَحْيِ، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}.
فسُنَّتُه وَحْيٌ مِثلُ القرآن، نَزَلَ عليه بها الرُّوحُ الأمينُ جبريلُ عليه السلام، قال جلَّ شأنه: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}، والحِكمةُ هي السُّنَّة باتِّفاق السَّلف.
فأقوالُهُ عليه الصلاة والسلام وأفعاله حقٌّ وصِدق، قال جلَّ شأنه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}.
وحديثُ النبي ﷺ موافقٌ للعقولِ والأصولِ، لا يُنكِرُه عَقْلُ مَن عَلِمَ الموضِعَ الذي وَضَعَ اللَّه به رسولَه ﷺ مِن دِينه، وما افترضَ على النَّاسِ مِن طاعتِه، ولا يَنفِرُ منه قلبُ مَن اعتقدَ تصديقَه فيما قال، واتِّباعَه فيما حَكَمَ به.
واللَّه سُبْحَانَهُ أنزل على رَسُوله وَحْيَيْنِ – الكتابَ والسُّنَّةَ -، وهما قرينانِ في الاحتجاجِ بهما، وَأوجبَ اللَّهُ على عبادِه الإِيمَانَ بهما وَالعَمَلَ بِمَا فيهمَا، ومَن فَرَّق بينهما وزَعَمَ أنَّ القرآنَ يَكْفيه في أمرِ الدِّينِ فهو كمَن يُؤمنُ ببعضِ الكتابِ ويكفرُ ببعضٍ، فاتِّباعُ أحدِهما اتِّباعٌ للآخَر، والكتابُ والرَّسولُ عليه الصلاة والسلام لا يختلفان أبداً كما لا يُخالِفُ الكتابُ بعضُه بعضاً، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً}.
فكلُّ ما أَمَرَ به النبيُّ ﷺ أو نَهَى عنه فهو مِثلُ ما أَمَرَ اللَّهُ به أو نَهَى عنه، قال عليه الصلاة والسلام: «يُوشِكُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُكَذِّبَنِي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ، يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» (رواه أحمد)، قال الشوكاني رحمه الله: «ثُبُوتُ حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، وَاسْتِقْلَالُهَا بِتَشْرِيعِ الأَحْكَامِ ضَرُورَةٌ دِينِيَّةٌ، وَلَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَنْ لَا حَظَّ لَهُ فِي دِينِ الإِسْلَامِ».
عَصَمَ اللَّهُ نَبِيَّه عليه الصلاة والسلام في أقوالِه وأفعالِه، وحَفِظَه من كَيْدِ أعدائِه، حتى بَلَّغَ الرِّسالةَ أتمَّ البلاغِ، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، قالتْ عائشةُ رضي الله عنها: «مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّداً ﷺ كَتَمَ شَيْئاً مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَدْ كَذَبَ، وَاللَّهُ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآيَةَ» (متفق عليه)، قال الأوزاعيُّ رحمه الله: «إِذَا بَلَغَكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَدِيثٌ فَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ بِغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ مُبَلِّغاً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى».
والنَّبِيُّ ﷺ داعِي العبادِ إلى الجنَّةِ؛ ضَرَبَ نَفَرٌ من الملائكةِ مَثلاً للنَّبيِّ ﷺ، فقالوا: «مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَاراً، وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِياً، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ المَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ المَأْدُبَةِ، قَالُوا: فَالدَّارُ الجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ ﷺ، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّداً ﷺ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّداً ﷺ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ» (رواه البخاري).
وسُنَّتُه ﷺ بيانٌ للقرآنِ وشَرْحٌ له، بها يُعرَفُ ما أُجمِلَ فيه، ومنها تُؤخَذُ تفاصيلُ الشَّرائعِ، وتُنَزَّلُ آيُ الكتابِ على وُجُوهِها، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
عرَّف ﷺ أصحابَه وسائرَ أمَّتِه معبودَهم وإلهَهم أتمَّ تعريف، حتى كأنَّهم يَرَوْنَه ويُشاهدونَه بأوصافِ كَمَالِه ونُعُوتِ جلالِه، وعَرَّفَهمُ الأنبياءَ وأُمَمَهم، وما جَرَى لهم، وما وقعَ على أُمَمِهم معهم، حتى كأنَّهم كانوا بينهم.
وعَرَّفَهم مِن طُرُقِ الخيرِ والشَّرِّ دَقِيقِها وجَلِيلِها ما لم يُعَرِّفْه نبيٌّ لِأُمَّتِه قبلَه.
ولولا سُنَّةُ النَّبِيِّ ﷺ ما اهتدَى مسلمٌ إلى عَدَدِ ركعات الصَّلوات، ولا مقاديرِ الزَّكوات، ولا صفةِ الحجِّ والعمرةِ، ولا أحكامِ البُيُوعِ والأَنْكِحَةِ، وغيرِها من تفاصيل الدِّين، قال ابن عمرَ رضي الله عنهما: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً ﷺ وَلَا نَعْلَمُ شَيْئاً، وَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ».
وأَتَى رجلٌ عِمْرَانَ بن حُصَيْن رضي الله عنهما فَسَألَه عن شيءٍ فحَدَّثَه، فقال الرَّجُل: «حَدِّثُوا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا تُحَدِّثُوا عَنْ غَيْرِهِ، فَقَالَ عِمْرَانُ رضي الله عنهما: أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ أَرْبَعاً لَا يُجْهَرُ فِيهَا؟ وَعَدَدُ الصَّلَوَاتِ وَعَدَدُ الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا؟ ثُمَّ قَالَ: أَتَجِدُ هَذَا مُفَسَّراً فِي كِتَابِ اللَّه؟ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْكَمَ ذَلِكَ، وَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ ذَلِكَ»، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تُفَسِّرُ القُرْآنَ وَتُبَيِّنُهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ».
والنَّبِيُّ ﷺ جاء بخيرِ الدُّنيا والآخرةِ برُمَّتِه، ولم يُحْوِج اللَّهُ الخلقَ إلى أحدٍ سِواه في البَيَان، لذا حَثَّ النَّبِيُّ ﷺ أُمَّتَه على حفظِ سُنَّتِه وتبليغِها إلى الخلقِ، فقال: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» (متفق عليه).
وكلُّ ما جاء به النَّبِيُّ ﷺ فالأخذُ به واجبٌ على العبادِ، وكلُّ ما نَهَى عنه أو حَذَّرَ منه وَجَبَ اجتنابُه، قال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.
ولا يَبْلُغُ العبدُ حقيقةَ الإيمانِ إلَّا إذا مَلَأَ اليقينُ قلبَه بتصديقِ النَّبيِّ ﷺ في كلِّ ما جاء به، ولم يَتَردَّدْ في الإذعانِ لشيءٍ مِن أوامرِه، ولم يَجِد في نفسِه حَرَجاً من التَّسليمِ بما أخبرَ به، قال سبحانه: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}.
بل لا يَصِحُّ إيمانُ عبدٍ حتى يتحاكمَ إلى شَرْعِه وسُنَّتِه وما جاء به في كلِّ صغيرٍ وكبيرٍ من أمرِ الدِّين، ويكون مع ذلك مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بحُكْمِه، ولا يَجِدُ في نفسِه حَرَجاً منه، ويُسَلِّم لأمرِه تسليماً، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.
واللَّه عز وجل بفضله بعث لَنا النَّبِيَّ ﷺ لِنَتَّبِعَه، ولم يكنِ الخلفاءُ الرَّاشدون يُقدِّمون كلامَ أحدٍ على سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، قال عثمانُ رضي الله عنه: «مَا كُنْتُ لِأَدَعَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ».
والأئمةُ مُتَّفقون اتِّفاقاً يَقِينِيّاً على وجوبِ اتِّباع الرَّسول ﷺ، وعلى هذا النَّهْجِ القويمِ سارَ العلماءُ الرَّبَّانيون، قال الشَّافعيُّ رحمه الله: «أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ».
فَيَجب على العبد أن يكون تَبَعاً لِلنَّبِيِّ ﷺ في جميعِ أمورِه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، قال ابنُ كثير رحمه الله: «أَيْ: لَا تُسَارِعُوا فِي الأَشْيَاءِ قَبْلَهُ، بَلْ كُونُوا تَبَعاً لَهُ فِي جَمِيعِ الأُمُورِ».
وكلُّ أَمْرٍ بخلاف سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ فلا خيرَ للعبدِ فيه، قال سفيانُ بن عيينةَ رحمه الله: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ هُوَ المِيزَانُ الأَكْبَرُ، فَعَلَيْهِ تُعْرَضُ الأَشْيَاءُ، عَلَى خُلُقِهِ وَسِيرَتِهِ وَهَدْيِهِ؛ فَمَا وَافَقَهَا فَهُوَ الحَقُّ، وَمَا خَالَفَهَا فَهُوَ البَاطِلُ».
ومخالفةُ أمرِه ﷺ مُوجِبةٌ للذُّلِّ في الدُّنيا والآخرة، قال عليه الصلاة والسلام: «وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي» (رواه أحمد)، وهو سببٌ للخسارةِ وسُوءِ العاقبةِ، قال عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً}.
ومَن عارض سُنَّةَ النَّبِيِّ ﷺ بقولٍ أو فِعْلٍ أو عقلٍ أو قياسٍ فما قام بما أوجبَه اللَّهُ عليه من تعظيمِ النَّبيِّ ﷺ وتوقيرِه، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}.
ومَن أعرضَ عن سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ أو تَرَفَّع عن الأخذِ بها، أو شكَّكَ في كلامِه وما جاء به، أو اعترضَ عليه بالعقلِ أو الهوى؛ تَحَسَّرَ يومَ القيامة على ما عَمِلت يداه من ذلك، {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا}.
ومَن استبانَ له شيءٌ من سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ فتَرَكَه وهو يَعلَمُ؛ فذلك مِن زَيغِ قلبِه، قال أبو بكر رضي الله عنه: «لَسْتُ تَارِكاً شَيْئاً كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْمَلُ بِهِ إِلَّا عَمِلْتُ بِهِ؛ فَإِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئاً مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ» (رواه البخاري).
ومَن تَرَكَ السُّنَّةَ رغبةً عنها أو تفضُّلاً عليها فهو مُستحِقٌّ للوعيدِ الشَّديدِ، قال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» (متفق عليه)، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «النِّفَاقُ الَّذِي فِي القُرْآنِ هُوَ النِّفَاقُ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ».
ولا يُخرِجُ النَّاسَ من ظُلُماتِ الحَيْرَةِ، ولا يأخذُ بأيديهم عند الفِتَنِ وكثرةِ الاختلافِ بين النَّاسِ إلَّا التَّمسُّكُ بسُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ ولُزُومُها في جميعِ الأحوالِ، قال عليه الصلاة والسلام: «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافاً كَثِيراً، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» (رواه أبو داود).
واتِّباعُ النَّبِيِّ ﷺ يورثُ محبَّةَ اللَّهِ ومغفرةَ الذُّنوبِ، قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}.
ومَن أطاعَ النَّبِيَّ ﷺ واتَّبعَ سُنَّتَه فهو موعودٌ بالجنَّة، قال عليه الصلاة والسلام: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» (رواه البخاري).
وتُوُفِّيَ عليه الصلاة والسلام وما طائرٌ يُقَلِّبُ جناحَيْه في السَّماءِ إلَّا ذَكَر للأُمَّةِ منه عِلْماً، وعَلَّمَهم آدابَ النَّومِ والقِيامِ والقُعودِ، والأَكلِ والشُّربِ، حتى التَّخَلِّي، ووَصَفَ لهم العرشَ، والكُرسيَّ، والسَّماءَ، والملائكةَ، والجنَّ، والنَّارَ، والجَنَّةَ، ويومَ القيامة وما فيه حتى كأنَّه رأْيُ عَينٍ.
والعباد مسؤولون عن النَّبِيِّ ﷺ يوم القيامة، خَطب عليه الصلاة والسلام النَّاسَ في حَجَّةِ الوداعِ – بعد عُمُرٍ مبَارَكٍ من الدَّعوةِ والمشاقِّ والمصاعبِ -، فقال في خطبته: «وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ، وَأَدَّيْتَ، وَنَصَحْتَ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: اللَّهُمَّ اشْهَدِ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ – ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -» (رواه مسلم).
وشَهِدَ له ربُّه أنَّه أدَّى ما عليه، ولم يَقْبِضْه حتى قامتْ به الحُجَّةُ على العبادِ، {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً}.
وبعدُ، أيُّها المُسلِمونَ:
فأصلُ دينِ الإسلامِ: الشَّهادةُ بالتَّوحيدِ للَّهِ وحدَه، والشَّهادةُ بالرِّسالةِ لنبيِّه مُحمَّدٍ ﷺ؛ لا تَنْفَعُ إِحداهما دون الأُخرى، قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا}، ولا يكون العبدُ صادِقاً في شهادتِه لمُحمَّدٍ بالرِّسالةِ إلَّا باتِّباعِه والانقيادِ له، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}، وأقوالُه وأفعالُه حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ، وسيرتُه وهَدْيُه دِينٌ يُتَدَيَّن به، والخَلْقُ في قبورِهم عنه مسؤولون، وبه مُمتحَنون.
أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً}.
بارك اللَّهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم …
الحمدُ للَّهِ على إحسانِه، والشُّكرُ لهُ على توفيقِه وامتِنانِه، وأَشهدُ أن لَا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ لهُ تعظِيماً لشَأنِه، وأَشهدُ أنَّ نبيَّنا مُحمَّداً عبدُهُ ورسولُه، صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وسلَّمَ تسلِيماً كثيراً.
أيُّها المسلمون:
اعتصموا بكتابِ اللَّه فإنَّه حَبْلُه المتين، وعَظِّموا سُنَّةَ نبيِّكم ﷺ، والْزَموا ما فيها؛ ففي ذلك العصمةُ في الرَّأيِ والسَّلامةُ في العاقبةِ، قال الزُّهريُّ رحمه الله: «كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ عُلَمَائِنَا يَقُولُونَ: الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ».
ولا غِنَى لأحدٍ من الخَلْقِ عمَّا جاء به الرَّسولُ ﷺ، وحاجةُ أهلِ الأرضِ إلى سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ كحاجتهم إلى الطَّعامِ والشَّرابِ، بل أشد، ولا بقاءَ لأهلِ الأرضِ إلَّا ما دامتْ سُنَّةُ النَّبِيِّ ﷺ موجودةً فيهم.
وفي آخرِ الزَّمانِ إذا دَرَسَتْ آثارُ الرُّسُلِ من الأرضِ وانْمَحَتْ بالكُلِّيَّةِ؛ خَرَّبَ اللَّهُ العالَمَ العُلْوِيَّ والسُّفْلِيَّ وأقامَ القيامةَ.
ثمَّ اعلموا أنَّ اللَّهَ أمركم بالصَّلاة والسَّلام على نبيِّه …