انتظر قليلا 0%

خطبة الجمعة | ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل | ١٠ ربيع الآخر ١٤٤٤



ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل

أُلقيت يوم الجمعة، العاشر من شهر ربيع الأوَّل، سنة أربع وأربعين وأربع مئة وألف من الهجرة، في المسجد النَّبوي.

تحميل word   تحميل PDF   |   বাংলা   Deutsch   English   Español   فارسى   Français   Hausa   हिन्दी   Bahasa Indonesia   Italiano   Bahasa Melayu   Português   русский   Shqip   Kiswahili   தமிழ்   тоҷикӣ   Türkçe   اردو   中文


إنَّ الحمدَ للَّهِ، نَحمدُه ونَستعينُه ونَستغفرُه، ونَعوذُ باللَّهِ مِن شُرورِ أنفسِنا ومِن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللَّهُ فلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضلِلْ فَلا هادِيَ لهُ، وأَشهدُ أن لَا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شَريكَ لهُ، وأَشهدُ أنَّ نبيَّنا مُحمَّداً عبْدُه ورسولُه، صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وسلَّمَ تَسلِيماً كثيراً.

أمَّا بعدُ:

فاتَّقوا اللَّهَ – عِبادَ اللَّهِ – حقَّ التَّقوى، وراقِبُوهُ في السِّرِّ والنَّجوى.

أيُّها المُسلِمونَ:

المالُ نِعمةٌ مِن اللَّهِ عظِيمةٌ، بِه تُعْمَرُ الأرضُ، وتُفرَّجُ الكُروبُ، وتُقضَى الحَاجاتُ، وتُؤتَى المُروءاتُ، وتُكتَسبُ المَحامِدُ، قال عليه الصلاة والسلام: «نِعْمَ المَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ» (رواه البخاري في الأدب المفرد)، ولا يَقومُ عَيشُ الناسِ إلَّا بالمَالِ؛ ولذلكَ زُيِّنَ لهم وحُبِّبَ إلى نُفوسِهِم، قال جلَّ شأنه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب}.

وكلُّ مَا فِي الأرضِ مِنَ الطَّيِّباتِ فالأَصلُ فِيهِ الإباحةُ لِلخَلْقِ؛ لِيَستعِينُوا بِه على طاعةِ اللَّهِ، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ}، وسُنَّةُ المُرسلِينَ وأَتباعِهِم: أَخْذُ الحَلالِ والأكلُ مِنَ الطَّيِّباتِ، {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً}.

وجَميعُ الأُممِ السَّالِفةِ امتَحنَهَا اللَّهُ بِفِتَنٍ، وفِتْنةُ هذِه الأُمَّةِ المَالُ، قال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي المَالُ» (رواه أحمد).

والعَبدُ مَسؤولٌ عنْ مَالِه – فِي اكتسابِه وفِي وُجوهِ إنفَاقِه -، قالَ الرَّسولُ ﷺ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاه؟» (رواه الترمذي).

ومُعامَلةُ النَّاسِ بالمَالِ مِيزانُ الأخلاقِ ومَيْدانُ المُروءاتِ، فمَن عامَلَ النَّاسَ بالمَالِ وشَهِدُوا لهُ بالصِّدقِ والأمَانةِ؛ فذلكَ دليلٌ على وُفورِ عَقْلِه وكَمالِ دِيانَتِه.

وحُقوقُ العِبادِ فِيمَا بيْنَهُم مَبنيَّةٌ على المُشاحَّةِ، لذَا نَهى اللَّهُ عِبادَهُ أن يَأكلَ بعضُهم أموالَ بَعضٍ بالبَاطلِ؛ لِمَا فِي ذلكَ مِن إذْكَاءِ الشَّحْناءِ والعَداواتِ والبَغْضاءِ، قال سبحانه: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ}، وحُرْمةُ المَالِ كحُرْمةِ الدِّماءِ والأَعرَاضِ، خَطَبَ النَّبيُّ ﷺ النَّاسَ يومَ النَّحْرِ بمِنىً فقالَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» (متفق عليه).

والمُعامَلةُ بيْنَ النَّاسِ بالمَالِ مِن أُصولِ المُباحاتِ الَّتي لا غِنىً للنَّاسِ عَنهَا فِي حَياتِهِم، ولا يَتمُّ انتفَاعُهُم واستِمْتاعُهُم بذلكَ إلَّا معَ الصِّدقِ والأَمانةِ.

وللشَّيطانِ مَداخِلُ عَدِيدَةٌ فِي مُعامَلاتِ النَّاسِ المَاليَّةِ لِيُوقِعَهُم فِيمَا حُرِّمَ عليهِم، وقد جاءتِ النُّصوصُ بالوَعيدِ الشَّديدِ لمَن وَقَعَ فِي شَرَكِ الشَّيطانِ، فأكَلَ أموالَ النَّاسِ بالبَاطلِ بِأيِّ نوعٍ مِنَ الأنواعِ.

والصِّدقُ والبَيانُ أَصْلٌ فِي المُعامَلاتِ بيْنَ النَّاسِ، قال عليه الصلاة والسلام: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا؛ بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا» (متفق عليه)؛ ومَن خَالَفَهُمَا فبَاعَ لأَخِيهِ عَيْناً مُحرَّمةً، أو باعَهُ مَا ليسَ مِلْكاً لهُ، أو مَا لا قدرة له على تسليمه والانتِفاعِ بِهِ؛ فقد وَقَعَ فِيمَا نُهِيَ عَنهُ.

وبَيْعُ مَا فِيهِ غَرَرٌ أوْ جَهالةٌ أو الغِشُّ فِي المَبِيعِ مِمَّا جاءَ فِيهِ الوَعِيدُ، قالَ أَبو هُريرةَ رضي الله عنه: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ – أَيِ: المَطَرُ – يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟! مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي» (رواه مسلم).

والمُؤمِنونَ لُحْمةٌ واحدةٌ، ومِمَّا يُفَرِّقُهُم التَّنافُسُ المَذمومُ فِي المَالِ، فمَن باعَ على بَيْعِ أَخيهِ أو سَامَ على سَوْمِه، أو زَادَ عليهِ فِي ثَمَنِ سِلْعةٍ وهو غَيرُ راغبٍ فِيهَا؛ فقدْ ارتكبَ مُحرَّماً، قال ﷺ: «لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ» (متفق عليه).

واللَّهُ سُبحانَهُ عَظيمٌ، لا يُحْلَفُ باسْمِهِ إلَّا فِي أَمْرٍ عظيمٍ، والمُؤمِنُ يَتنزَّهُ عنِ الحَلِفِ فِي المُعامَلاتِ، فمَن حَلَفَ صادِقاً على سِلْعةٍ ليُرغِّبَ النَّاسَ فِي شِرائِهَا نُزِعتْ برَكةُ مَالِه، قال عليه الصلاة والسلام: «الحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ – أَيْ: مَظِنَّةٌ لِرَوَاجِهَا –، مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ – أَيْ: سَبَبٌ لِنَزْعِ بَرَكَتِهَا -» (متفق عليه).

ومَن حَلَفَ بِاللَّهِ كاذِباً على سِلْعةٍ لتَرُوجَ فِي النَّاسِ؛ فقدْ جَمَعَ بيْنَ قَبائِحَ ثلاث: الكذبُ، والتَّهاونُ باللَّهِ، وغَرَرُ المُشتَرِي، قال أَبو ذَرٍّ رضي الله عنه: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَلَاثَ مِرَارٍ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: المُسْبِلُ، وَالمَنَّانُ، وَالمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالحَلِفِ الكَاذِبِ» (رواه مسلم).

والوَفاءُ بالعُقودِ وحِفْظُ العُهودِ وأداءُ مَا تَشارَطَ النَّاسُ عليهِ مِن مَحاسِنِ الدِّينِ الَّتي أَمَرَ اللَّه بِها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ}، وقال عليه الصلاة والسلام: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ؛ إِلَّا شَرْطاً حَرَّمَ حَلَالاً، أَوْ أَحَلَّ حَرَاماً» (رواه الترمذي).

والمُشتَرِي يَستحِقُّ كاملَ مَا عَاوضَ عليهِ مِن العَيْنِ، والمُطَفِّفُ بِنَقْصِ مَا يَستحِقُّه المُشتَرِي وعَدَه اللَّهُ بالخَسارِ والهَلاكِ، قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}.

وآكِلُ الرِّبَا يَأخذُ أكثرَ مِمَّا يَستحِقُّه، ولَمَّا كانَ مُظهِراً قُوَّتَهُ للضَّعِيفِ حَارَبَهُ اللَّهُ القَويُّ، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، وهو مع خُسرَانِه فِي الحَرْبِ مُتوعَّدٌ باللَّعنِ، قال ‌جابرٌ رضي الله عنه: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ‌آكِلَ ‌الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ» (رواه مسلم).

والشَّرْطُ فِي الأَجيرِ القُوَّةُ والأَمانةُ، قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ}، ومَن ادَّعى مَعرفةَ عملٍ وهو لا يَعرِفُه، وأخَذَ مِن النَّاسِ أموالَهَم بِسببِ ذلكَ؛ فقدْ زَوَّرَ عليهِم بمَا ليسَ عندَه، قال عليه الصلاة والسلام: «المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» (متفق عليه)، أَيِ: المُتَكَثِّرُ بمَا ليسَ عندَه – بأنْ يُظْهِرَ أنَّ عندَه ما ليس عندَه؛ يَتَكَثَّرُ بذلكَ عندَ النَّاسِ ويَتزيَّنُ بالبَاطِلِ -؛ فهو مذمومٌ كمَا يُذَمُّ مَن لَبِسَ ثَوْبَيْ زُورٍ.

واللَّهُ سُبحانَهُ خَصْمٌ للظَّالِمينَ، وصَرَّحَ بأنَّه خَصْمٌ لثلاثةٍ لِفَظاعَةِ أَمْرِهِم، ومِن أُولَئِكَ: مَن مَنَعَ الخَدَمَ والأُجراءَ حُقوقَهُم، أو مَاطَلَ فِي أَدائِهَا، قال عليه الصلاة والسلام: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرّاً فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ» (رواه البخاري).

ومَن أَحسنَ إلى غَيرِه وأقرَضَه فحَقُّه الشُّكرُ والامتِنانُ، والمَدِينُ القَادِرُ على وفاءِ دَينِه ولا يُوَفِّيهِ لصَاحِبِه أو يُماطِلُ فِي ذلكَ؛ ظالِمٌ للدَّائِنِ، جاحِدٌ لإحسانِه، آكِلٌ لأموالِ النَّاسِ بالبَاطِلِ، قال عليه الصلاة والسلام: «مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ» (متفق عليه).

وحُقوقُ الخَلْقِ مَبنيَّةٌ على إعطاءِ ذِي الحقِّ حقَّه، وعلى مَنْعِ مَن لا يَستحِقُّ مَا يَطلُبُه، ودَافِعُ الرِّشوةِ وآخِذُها مُتعرِّضٌ لِلَعْنَةِ اللَّهِ، قال عبدُ اللَّهِ بنُ عَمرٍو رضي الله عنهما: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الرَّاشِيَ ‌وَالمُرْتَشِيَ» (رواه الترمذي).

ومَن تَولَّى أَمْراً أو تَقلَّدَ مَنصِباً فقَبِلَ هَدَايا النَّاسِ فهو آخذ لها بغير حقٍّ وسيلقى اللَّه وهو حامل لها، قال أبو حُمَيْدٍ الساعديُّ رضي الله عنه: «اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَجُلاً عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ، قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً؟! ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى العَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أَفَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ؟! وَاللَّهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئاً بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ! ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» (متفق عليه).

والأمَانةُ مِمَّا أَمَرَ به النَّبيُّ ﷺ فِي مَطْلَعِ بِعْثَتِه، قالَ هِرَقْلُ لأبي سُفيانَ رضي الله عنه: «فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ – أَيِ: النَّبيُّ ﷺ؟ – قَالَ: يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالعَفَافِ وَالوَفَاءِ بِالعَهْدِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ» (رواه البخاري)، وهِيَ مِمَّا يُحاسَبُ عليهَا العبدُ يومَ القِيامَةِ فِي أَشدِّ المَواقِفِ، ولِعِظَمِ شَأنِها ورِعايةِ حقِّها؛ تَمْثُلُ عندَ الصِّراطِ، قال النَّبيُّ ﷺ: «تُرْسَلُ الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ – يَمِيناً وَشِمَالاً » (رواه مسلم).

والنَّاظِرُ على أوقافِ المُسلِمينَ إذا لم يَتحرَّ الأنفعَ لهُم، أو أَكَلَ مِنهَا فوقَ مَا جُعِلَ له، أو حَرَمَ مُستحِقّاً، أو خَالَفَ شَرْطَ الواقِفِينَ؛ فقدْ ضَيَّعَ ما استُؤْمِنَ عليهِ، وربُّكَ لهُ بالمِرْصادِ.

ومَن لم يُنَفِّذْ وَصِيَّةَ مَيِّتِهِ، أو أبطأَ فِي إنفاذِهَا، أو خَالَفَ مُقتَضاها، أو أَخفَى مِنهَا ما يَنقُصُ حظَّه؛ فقدْ ظَلَمَ الميِّتَ، واللَّهُ رقيبٌ عليهِ.

والوَصِيُّ على اليتيمِ والضُّعفاءِ إذا حَافَ عليهِم، أو مَنَعهُم حُقوقَهُم فهو ظالِمٌ لهُم، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}.

ومَن كانتْ فِي يدِه أمانةٌ أو عَارِيَّةٌ فجَحَدَها، أو فرَّطَ فِي حِفْظِها فأتْلَفها، أو استأجرَ عَيْناً فأفسدَها، أو استأمَنَه النَّاسُ فِي مُعامَلةٍ فخانَهُم؛ فقدْ أَكَلَ مالاً بالبَاطِلِ، والجَاحِدُ كالسَّارِقِ، قالتْ عائشةُ رضي الله عنها: «كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ المَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهَا» (رواه مسلم).

ومَن حَرَمَ وارِثاً نَصيبَه مِن التَّرِكةِ، أو نَقَصَ مِنهُ، أو أخفاهُ، فقد أَكَلَ حَراماً، قال ﷺ: «أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا» (متفق عليه).

ومَن استَطَالَ على ضعيفٍ – من: والِدة أو زوجة أو بنت – بقوَّتِه ووِلايتِه، وأخَذَ مالَهم؛ فَلْيَتذكَّرْ قوَّةَ اللَّهِ عليهِ، قال ﷺ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» (رواه أحمد).

ومَن غَصَبَ أرضاً أو غيَّرَ أعلامَهَا؛ جُوزِيَ بجِنسِ ما ظَلَمَ، قال ﷺ: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ؛ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» (متفق عليه)، أَيْ: تَصيرُ البُقعةُ المَغصوبةُ مِنهَا فِي عُنقِه كالطَّوقِ إلى السَّافِلينَ.

ومَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسلِمٍ بِيَمِينِه – ولو كان شيئاً يسيراً – أوجَبَ اللَّهُ لهُ النَّارَ، قال النَّبيُّ ﷺ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِنْ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ» (رواه مسلم).

والَّذي يَسألُ النَّاسَ أموالَهُم مِن غيرِ فاقةٍ ولا جائِحةٍ مُهلِكةٍ فإنَّما يَسألُ جَمْراً، قال الرَّسولُ ﷺ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّراً فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْراً؛ فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» (رواه مسلم).

وكلُّ مُعامَلةٍ بيْنَ النَّاسِ اشتَملتْ على ظُلْمٍ، أو ضَررٍ، أو حِيلةٍ، أو على مَنْعِ ما أَوجبَهُ اللَّهُ، أو فِعْلِ مَا حَرَّمَهُ؛ فهِيَ مِن أَكْلِ المَالِ بالبَاطِلِ.

 ولِلحَرامِ حِمىً مِن المُشْتبِهاتِ، ومَن جَاوزَ الحِمى خِيفَ عليهِ الوقوعُ فِي الحرامِ، ومَن اتَّقَى الأُمورَ المُشْتبِهةَ واجْتَنَبَها؛ فقدْ حَصَّنَ عِرْضَهُ وبَرَّأَ دِينَه.

والمُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمونَ مِن لِسانِه ويدِه، وخَرَجَ مِن الدُّنيا وليسَ بيْنَه وبيْنَ أَحدٍ مِن المُسلِمينَ خُصومَةٌ فِي نَفْسٍ أو مالٍ، قال النَّبيُّ ﷺ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ، وَلَا مَالٍ» (رواه أحمد).

وبعدُ، أيُّها المُسلِمونَ:

فالمالُ الحرامُ – وإن كَثُرَ – فهو مَمحُوقُ البَركةِ، جَالِبٌ للشُّؤْمِ والمَصائِبِ، مانِعٌ للسَّعادةِ، مُغضِبٌ للرَّبِّ، وإن رَفَعَ العبدُ يديهِ إلى السَّماءِ لا يُستجابُ دُعاؤُه.

والعاقلُ مَن وَضَعَ المالَ فِي يدِه ولم يَجعلْهُ فِي قَلْبِه، واتَّقى اللَّهَ فِيهِ، خَرَجَ رِفَاعَةُ رضي الله عنه مع النَّبيِّ ﷺ إلى المُصَلَّى، فرَأَى النَّاسَ يَتبايَعُونَ، فقالَ: «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ، فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ فُجَّاراً، إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللَّهَ، وَبَرَّ، وَصَدَقَ» (رواه الترمذي). 

والمالُ الحلالُ – وإنْ كان قليلاً – فهو كثيرٌ مع القَناعةِ، وهو خيرٌ للعبدِ مِن التَّنافُسِ فِي المالِ مِن غيرِ ورَعٍ ولا هُدىً مِن اللَّهِ، قال عليه الصلاة والسلام: «وَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» (متفق عليه).

أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.

بارك اللَّهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم …

 


الخطبة الثَّانية

الحمدُ للَّهِ على إحسانِه، والشُّكرُ لهُ على توفيقِه وامتِنانِه، وأَشهدُ أن لَا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ لهُ تعظِيماً لشَأنِه، وأَشهدُ أنَّ نبيَّنا مُحمَّداً عبدُهُ ورسولُه، صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وسلَّمَ تسلِيماً كثيراً.

أيُّها المُسلِمونَ:

المالُ الحلالُ كثيرٌ طيِّبٌ، واللَّهُ تعالى ربُّ الطَّيِّبينَ، ومَن حَفِظ حدودَ اللَّهِ فِيمَا آتاهُ وأدَّى حُقوقَهُ فِيمَا رَزَقَهُ؛ تَفضَّلَ عليهِ الرَّبُّ وأَكْرمَه، وأَجابَ دَعوتَه، وبَارَكَ لهُ فِي القليلِ مِن مالِه، ووسَّعَ عليهِ فِي رِزقِه.

ومَن آتاهُ اللَّهُ مالاً حلالاً، واستعمَلهُ فِي الطَّاعةِ وجَانَبَ بِه المَعصيةَ؛ فقد أُوتِيَ ما يَغْبِطُه عليهِ الصَّالِحونَ، قال عليه الصلاة والسلام: «لَا حَسَدَ إِلَّا عَلَى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الكِتَابَ وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالاً فَهُوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ» (متفق عليه).

والمُفلِسُ مِن الخَلْقِ على الحقيقةِ ليسَ مَن فاتَه الغِنى لقلَّةِ مالِه، لكنَّ المُفلِسَ مَن فاتَه تَحصِيلُ الحسناتِ وتَرْكُ السَّيِّئاتِ، وأَكَلَ أموالَ النَّاسِ بالبَاطِلِ، وخَاضَ بغيرِ حقٍّ فِي أَعراضِهِم ودِمائِهِم.

ثمَّ اعلموا أنَّ اللَّهَ أمركم بالصَّلاة والسَّلام على نبيِّه …